زمان, كانت الشطارة.. مهارة, والمهارة, لو بحثنا عن أصلها اللغوي هي إجادة, وللإجادة مقاييس ومعايير ومواصفات شخصية, فالتلميذ الشاطر ـ في جيلي ـ هو ذلك الذي استوعب الدروس وحظي باحترام زملائه ومدرسيه, والمحامي الشاطر هو ذلك الأمين علي مصلحة موكله ولا يبيعه بذهب المعز, والدكتور الشاطر هو هذا الحكيم الأقرب الي رهبان المهنة والأم الشاطرة هي التي يحتل أولادها وزوجها المرتبة الأولي في حياتها, ولاعب الكرة الشاطر هو الماهر في الملعب والمتواضع في المدرجات.
اختلف مفهوم الشطارة كثيرا بزاوية360 درجة, اختفت الإجادة وحل محلها( الفهلوة) لم تعد الشطارة مهارة بل أصبحت نصبا واحتيالا عيني عينك, ومنذ أن اتحفتنا الثورة بمفهوم( الولاء قبل الكفاءة) والدنيا تغيرت, صار النفاق للركب, أصبح من المهم أن تحدد( الهدف العالي) الذي تقترب منه وتتفنن في ارضائه وانتزاع ابتسامته حتي لو جعلت من نفسك( مهرج سيرك) أو بهلوانا, المهم أن يرضي عنك( الهدف) فيمنحك جاها أو منصبا, ليس من الضروري أن تكون كفئا, فكفاءتك علي رأسي ولكن ولاءك أكثر أهمية وضرورة, ولاؤك بمعني أن تنصر( الهدف) ظالما أو مظلوما, ولاؤك بمعني أن تتحدث عن عدل( الهدف) وكأنه عمر بن الخطاب, ولاؤك بمعني أن يمشي فوقك( الهدف) فتشعر بالسعادة لأنك ذقت نعاله, ولاؤك بمعني أن تلغي مخك فإذا قال( الهدف) الشمس تشرق من المغرب, قلت كم ضحكت علينا كتب الجغرافيا سعادتك؟ واذا قال( الهدف) الفقر أكذوبة في البلد, قلت مبادرا: ده افترا سعادتك؟ واذا توجع( الهدف) نطقت بالآهة, واذا قال( الهدف) نكتة مكررة, ضحكت حتي تسقط رأسك, أنت طول الوقت ممثل لا يمل الدور وكأنك الملك لير علي ا
لمسرح القومي, واذا كان( الهدف) امرأة, فالوصول الي حماها بمعسول الكلام وبالهدايا في المناسبات وبالمديح الدائم وبالانحياز الكامل المطلق, ولأننا بشر ولنا ضعفنا, فإن شطار هذا الزمن يلعبون علي أوتار الضعف ويداعبون غدد النرجسية ويرفعون( الهدف) الي مصاف( الأستاذة) و(المدرسة) و(الجامعة) وتراهم ينسحقون وينكفئون ويلعقون التراب, ويوم يسقط الهدف ـ لأسباب مختلفة ـ يتنكرون وينكرون الهدف قبل صياح الديك.
(الأهداف) تعرف أن مرءوسيهم منافقون وكذابون ولكنهم ـ وهذا هو المهم بل الأهم ـ يمنحونهم صكوكا من الولاء.
ربما لهذا يشعر كثير من الناس ـ ربما كنت أنت ـ واحدا منهم, بالغربة في المجتمع, فطبيعتك أن تجامل بعض الوقت وليس كل الوقت, وطبيعتك ترفض أن يكون معيار اقترابك من الهدف هو ولاؤك له قبل كفاءتك, طبيعتك ترفض( ازدراء) كفاءتك لحساب ولائك, سيصبح مجتمع( الموالين) الجهلة في نهاية الأمر, وربما كانت صفاتك الشخصية غير مؤهلة لفن ارضاء( الأهداف) أينما كان موقعها.
شطار هذا الزمن( يعتقلون) آراءهم وقناعاتهم داخل ضلوعهم, لأنهم لو صارحوا( الهدف) بما في صدورهم لقضوا نهائيا علي أحلامهم, لهذا فالصمت إحدي آليات شطار زماننا, انه صمت مفروض وارادي, وأصحاب نظرية الصمت يتطلعون الي المواقع المرموقة بعد ما أثبتت التجارب أن الصخب في الصالون تأتي بعكس اتجاه الريح, وأصبح البعد عن النيون والضوء من مسوغات الترشيح للمواقع, من سمات شطار هذا الزمن( امساك العصايا من النص) فأنت مع الحكومة وفي نفس الوقت مع المعارضة, وأنت مهاجم للنظام ومدافع عن النظام في نفس الوقت, انها شطارة( لاعب الترابيز) في السيرك الذي يمشي علي السلك المشدود ويحفظ توازنه, ومن سمات شطار هذا الزمن الزعيق وهو من أدوات( الهتيفة) والهتيفة بغبغاوات يرددون ما يقال بلا فهم أو وعي, وهؤلاء يوجدون في حياتنا في مناطق جغرافية كثيرة ويقبضون دائما الثمن, ربما كان ولاؤهم( للهدف) زائفا ولكن أصواتهم النحاسية العالية أهم ومطلوبة فهم يشكلون ما يطلق عليه في علم السياسة( بديكتاتورية الأغلبية), وفي جيلي كان الذكاء الاجتماعي محمودا ويعبر عن المرونة الشخصية وعدم الانغلاق, أما ذكاء شطار هذا الزمن فه
و( ذكاء استغبائي) أي مطلوب الغباء والطرش والخرس, فإذا حققت هذه المعادلة اجتزت الامتحان وصرت( منهم), في قاموس شطار هذا الزمن الرجل يستخدم فهولته ويستثمر ولاءه, والمرأة تستخدم جمالها وتضاريس الجسد والتلويح بالأماني, صحيح تقول أمثالنا العامية( ما يقع إلا الشاطر) والشاطر الذي يقع هو الذي يخالف دستور الشطارة, فيعترض علي خطأ أو يصوب مسارا أو يكف عن النفاق أو ينسحب من طابور الهتيفة, ربما ثاب الي رشده وأفاق من غفوته و(ارتد) الي طبيعته فهذا المرتد له بئس المصير ولم يعد( منهم).
الذين يشعرون بالغربة ولا يملكون مهارات شطار هذا الزمن ـ وربما كنت أنت واحدا من هؤلاء ـ يهاجرون الي مجتمعات تضع الكفاءة معيارا أساسيا وتعتبر كفاءتك قمة الولاء, واذا لم يهاجروا وراء البحار هاجروا الي( الداخل) وكثيرا ما( ينسحبون) من المشاركة ويشكلون أغلبية صامتة.
شطار هذا الزمن يمارسون أعمالا( عصرية) منها( أبواق لفلان أو علان) أو( هتيفة) تحت الطلب, أو( كتاب تقارير), أو( خدمات غير منظورة).
وما عاد الطالب المستوعب بل أصبح المسطح, وصار المنجد يغش القطن بمواد أخري ربما كانت بقايا ملوثة من المستشفيات, وصار المحامي الشاطر من يتولي قضية موكله وخصمه, وأصبح الطبيب الشاطر من يكشف علي ثلاثين مريضا في نصف ساعة بالفراسة, وصار لاعب الكرة يبحث عن الاحتراف واللعب في أندية تدفع باليورو, وصار كناس البلدية يتحرك فقط اذا ظهر حضرة الملاحظ.
هل هي الكثرة العددية للسكان وراء هذا( الهبوط)؟ إن الصين تكذب النظرية.
هل هو الفقر؟ إن الهند أفقر وتملك القنبلة الذرية.
هل هو المال في غير موضعه؟ إن ماليزيا صارت من النمور السبعة.
وياليت ناقدنا الراحل العظيم الذي يحظي بالتعتيم عليه د. لويس عوض كان حيا, لكتب فصولا جديدة من كتاب الأقنعة, حيث يرسم بالكلمة المعبرة صورا لشخصيات بيننا, دون أن يذكرها بالاسم, هذه الفصول عن شخصيات الفوريجي, الفهلوي, المغنواتي علينا, المهياص, الكليم, الترباس, المستعفي, المنشار, الهباش, الطبال, كداب الزفة