بقلم د. عمار على حسن ٢/ ٦/ ٢٠٠٩
لم تعد كرة القدم مجرد لعبة تسلية أو لتقضية وقت الفراغ، ولم تعد كذلك تمرينا جسديا خالصا، بل صارت مع الأيام ظاهرة اجتماعية متكاملة الأركان، تعبر فى جانب منها عن سيكولوجية شعب معين، لتكشف لنا عما إذا كان متراخيا الله يعطيك العافيهولا أو مقاتلا مثابرا، لا يسلم بالهزيمة ولا يعرف اليأس. وتعبر فى جانب أعم وأشمل عن صيغة للتفاعل الاجتماعى الخلاق، الذى يقوم على حد من العدالة النسبية لا تطاولها الحياة العادية للبشر، لا سيما فى بلد غابت فيه العدالة عن كل شىء تقريبا.
فمهما اختلفت الإمكانيات بين الفرق فكل منها تمثل بعدد محدد من اللاعبين، يخضعون لتحكيم محايد، ويمكن للصغير منهم أن يهزم الكبير، والضعيف أن ينال من القوى، ومن فى ذيل القائمة يسقط من يعتلى صدارتها.
وما زاد من تعميق تواجد «كرة القدم» كظاهرة اجتماعية ـ سياسية هو التعويل عليها فى تخفيف حدة الخلاف بين الشعوب عبر ما تسمى بـ«دبلوماسية الرياضة»، وفى حوار الحضارات وتعزيز التعارف بين الشعوب، وبناء نمط جديد من العلاقات الدولية، والمساهمة فى إيجاد مجال بديل للتنافس الدولى بعيدا عن التناحر والاقتتال والحروب.
لكل هذا لا يجب أن تمر بطولة «الدورى العام المصرى» الأخيرة مرور الكرام، ونستسلم جميعا لمنطق أى لاعب غشوم ومعلق مغرض وإعلامى قاصر ومحلل جاهل وجمهور متعصب وصحافة رياضية تنشر ثقافة الكراهية والتمييز والجهل.
فالبطولة الأخيرة، التى حسمها الأهلى لصالحه، كانت مليئة بالعبر والعظات، وقدمت لنا لوحة عريضة مرصعة بمشاهد عدة يمكنها إن تجاورت أو توازت أو حتى تتابعت أن تشرح لنا، وتكشف لنا، جانبا من الخصال الاجتماعية للمصريين فى هذه اللحظة من تاريخهم المديد.
وفى ظنى فإن هناك خمس سمات رئيسية بانت عليها فرق الدورى العام، السمة الأولى تتعلق بنشر ثقافة اعتباطية وعشوائية تركن إلى ثلاثة أمور الأول هو أن الأهلى فريق محظوظ، ويهزم خصومه عن طريق الصدفة، وينسى هؤلاء أن الصدفة لا تتكرر والحظ لا يمكن أن يحالف فريقا قرنا كاملا من الزمن، كما يتناسون المرات التى هُزم فيها الأهلى وضاعت منه بطولات مهمة فى فترات كان فيها هو الأفضل.
أما الثانى فهو أن هناك تواطؤا لصالح الأهلى فى مباراته مع «طلائع الجيش» وينسى هؤلاء أن الزمالك فوت مباراته للإسماعيلى، وأن الترسانة لم يلعب ضد الفريق الأصفر بالروح نفسها التى واجهت بها الأحمر، ويتغافلون عن أن الأهلى حسم أحيانا بطولات فى اللحظة الأخيرة، ومع فرق أكبر بكثير من الطلائع، ومدربين أمهر من فاروق جعفر.
والثالثة هى تفكير مشجعى الفريقين الكبيرين الخاسرين وهما الإسماعيلى والزمالك وفق نظرية المؤامرة، وهو مرض عضال أصاب الذهن الجمعى لأغلب المصريين، بحيث لا يجعل أصحابه يبحثون عن نقائصهم ويكتشفون عيوبهم، ويعزون إليها تراجعهم وهزائمهم بل يقولون إن هناك تآمرا عليهم، وهو تبرير سهل يريح الذهن والفؤاد لكنه لا يبنى فريق كرة قدم كبيرا ومنافسا، بل لا يصلح أمة خارت عزيمتها.
ولو أن مشجعى الإسماعيلى نظروا إلى براعة فريقهم وعقدوا الآمال على صقل خبرته مع الزمن، وبنوا على هذا الأساس، لحصدوا بطولات قادمة رغم أنف الأهلى وإمكانياته.
والسمة الثانية هى «الغل» الذى يواجه به المتفوق، وهى ظاهرة طالما انقبض لها قلب فيلسوفنا الكبير زكى نجيب محمود وهو يقر بأن الناس فى بلادى لا تريد أن تتبع خطى المتقدمين والفائقين، بل تعمل بكل ما وسعها من جهد فى سبيل شدهم إلى الوراء كى يسيروا مع القطيع.
وهذا ما حدث مع الأهلى، فلا أحد ينظر إلى الطريقة التى يحافظ بها على تفوقه، ويحاول أن يستفيد منها فينافسه، بل هناك رغبة مريضة فى تحطيمه.
وجزء من هذه السمة يعود إلى حالة عامة، وبعضها يرجع إلى سلوك الأهلى نفسه الذى يستغل قدراته المالية فى حرمان الفرق المنافسة من أفضل لاعبيها، وهو سلوك احتكارى بغيض، لم تألفه القلعة الحمراء إلا فى السنوات الأخيرة، ومن الأفضل أن تقلع عنه، وتهتم أكثر بتربية أشبالها.
والسمة الثالثة هى الانحياز إلى التحايل على حساب الحقائق الجلية، فمدرب الإسماعيلى يصر على أن فريقه هو الفائز بالدورى ويصل به الأمر إلى حد اتهام الحكم الإسبانى فى ذمته ـ وهو شىء مضحك ـ ليرفع عن نفسه المساءلة، وهو خطأ لم يقع فيه المدير الفنى البرازيلى صاحب الذهن المختلف، الذى تحدث عن عيب فى فريقه، ووعد بتلافيه.
وهذا التحايل يشى بافتقادنا إلى المثابرة، والإيمان بالتراكم الذى يدفعنا إلى الأمام. وما فعله العجوز لا يختلف كثيرا عما يفعله الساسة فى وقت هزائمنا العسكرية، أو أثناء تبريرهم لفشل مشروعات كبرى بعد الإنفاق الطائل عليها.
أما السمة الرابعة فتتعلق بالتفكير بالتمنى وتجاهل طبيعة المشكلات، فجمهور الزمالك ظل طيلة الدورى يعيد الإخفاقات إلى أسباب ثانوية، ويتغافل عن الأزمة «الهيكلية» أو الشاملة التى تمر بها القلعة البيضاء، ولهذا كان يرفع عقب كل مباراة يكسب فيها الفريق شعار «الزمالك راجع تانى» مع أن هذا يحتاج إلى إصلاح كامل، يبدأ من الإدارة، وهى مسألة قد يحققها مجلس الإدارة الحالى، لكن الأمر يحتاج إلى صبر، وليس إلى تعجل على غرار رجال المال الذين يبحثون عن الالله يعطيك العافيهب السريع بأى طريق، أو الشباب الذى يحلم بثروة تهبط عليه من السماء.
والسمة الخامسة والتى تحزننى كثيرا هى تبدل الوظيفة الاستراتيجية للزمالك، من فريق يحصد البطولات إلى فريق يرضى بمجرد هزيمة الأهلى على يده أو حتى بأيدى غيره، وهو حال يشبه حال مصر كلها، التى تراجع دورها واتبعت من هم أقل منها شأنا وتاريخا وقدرات.