من أدواره الصغيرة، البسيطة، أدركت أن عمرو سعد لن يكون ممثلاً والسلام، وأن هذه الأدوار على قصرها وبساطتها ستنتهى بـ«بطولة مستحقة»، وقد كان.. اقتطع عمرو سعد من كعكة السوق أكثر من ٢٠ مليون جنيه بدور بطولة فى فيلم صادم ومباغت لخالد يوسف، هو «حين ميسرة»، ثم اقتحم السوق بدور أعمق وأكثر حساسية فى أحدث أفلام خالد.. «دكان شحاتة».. ويراهن عمرو نفسه على أن إيرادات هذا الفيلم ستتجاوز الـ٢٠ مليوناً أيضاً.
وجه عمرو سعد «واقعى» جداً، لكنه تلخيص للجزء الأصيل فى «مصريتك»، الجزء الذى تحبه ويجعلك تتباهى بأنه «مصرى». وجه عمرو فيه شجن جميل، واستعداد أجمل للشر، لكن المفاجأة أن لديه خفة ظل طاغية.
ولديه ما هو أهم: وعيه المرهف بنفسه وبقدراته التمثيلية، ورأسه الملىء بالحكايات، وانتماؤه السافر لبسطاء هذا البلد.. لخيالهم وعشوائيتهم ودفئهم وتناقضهم وتوحشهم وبؤس أيامهم.
تستطيع فى النهاية أن توجز عمرو سعد فى ثلاث كلمات: «ابن بلد مثقف»... ولنبدأ.
■ من أين بدأت بالضبط: من الناس بشحمهم ولحمهم أم من الواقع بكل ما فيه من فجاجة وقسوة وتناقض؟
- منذ كنت فى المرحلة الثانوية كنت مصراً على دراسة ما أريد لدرجة إنى جبت مجموع كبير جداً ومادخلتش هندسة ولا إعلام ولا اقتصاد وعلوم سياسية بل التحقت بكلية الفنون الجميلة ودرست الديكور، وقدمت ٧ مسرحيات فى الكلية، ثم ندهتنى «نداهة الفن»، وبدأت أشاهد الأفلام لزيادة ثقافتى السينمائية والمسرحية، تخرجت وتخيلت أن أكون البطل الأول فى أى مكان مثلما كنت فى فريق التمثيل فى الجامعة، خاصة أننى حصلت على جائزة أحسن ممثل على مستوى جامعات مصر.
وبدافع الحماس، دخلت عالم السينما، لكننى صُدمت بالواقع.. إذ واجهنى العديد من المشاكل والعقبات. وفى عام ١٩٩٨ قابلت يوسف شاهين لأنه كان الوحيد الذى يتعامل مع الوجوه الجديدة وكان يطبق نظاماً أوروبياً، لكننى خرجت من تجربتى معه «يامولاى كما خلقتنى».
كنت أظن أننى أحمل مواصفات أبطال أفلامه، وأستطيع أن «أشيل» فيلماً بمفردى، لكننى اكتشفت أن هناك مسافة بين الحلم والواقع، وخرجت من التجربة أسوأ مما دخلت.. فقد كان دورى فى فيلم «الآخر» صغيراً مقتضباً وتم قصه فى المونتاج، ووجدت نفسى فى مهب الريح.
حاولت بعد ذلك أن أفتح «طاقة» فى جدار خرسانى ليرانى الناس، أو لأقول لهم إننى أستطيع أن أمثل، فأنا واحد جاى من مستوى اجتماعى تحت المتوسط، ولا يوجد شىء يسندنى سوى إيمانى الداخلى بأننى موهوب، وأحياناً كنت أشك فى ذلك. وقد وافقت على بعض الأدوار الصغيرة فى المسلسلات، لكن الحظ السيئ لازمنى لفترة، حيث وقعت مثلاً عقد فيلم تم تصويره ببطل آخر، ثم تبنانى مخرج طيب اقتنع بى واختارنى لبطولة فيلم عن المثَّال الرائد «محمود مختار» لكنه توفى، حتى إننى أصبحت أخاف على المخرجين منى.
■ ما أثر ذلك عليك؟
- «حصلى شوية حاجات وحشة»، انهارت حياتى الاجتماعية لدرجة أننى كنت أبيت فى مكتبة «السندباد» بجوار مقهى البورصة فى وسط البلد.
وكان مسؤول المكتبة - صديقى «عمر قناوى» - يعطينى كل يوم علبة سجائر و٣ أرغفة كبدة وتذكرتى مترو. وكنت أستغل وجودى فى المكتبة لأقرأ.. يعنى «حاجة ببلاش»، مما فتح داخلى مساحة للتأمل والشجن حتى وقفت على أرض صلبة، وهى «القاع» حيث لا وقوع بعده. واشتغلت صنايعى علشان أجيب فلوس، وقضيت سنوات طويلة لا أفعل شيئاً سوى السير مفلساً فى شوارع وسط البلد والسيدة زينب. كل هذه الظروف الصعبة خدمتنى فى تكوين ثقافة حقيقية مع الناس، وأصبح الناس وقود إحساسى، وهم الذين أوصلونى للمكانة التى أنا فيها الآن.
■ أنت مقتنع إذن بأن قربك من الناس منحك هذا النجاح؟
- لو قلت غير كده أبقى «حمار»، وباضحك على نفسى، لأن هما اللى بيقطعوا تذكرة علشان يشوفوك، وهما اللى بيدولك قيمة، والمفتاح الأساسى لقلوب الناس هو الصدق حتى لو كنت باقدم شخصية ملائكية، ولو ماتكلمتش بصوت الناس دى هخسر كل هذا النجاح.
■ ما أقسى موقف مر عليك فى هذه الفترة؟
- سافرت مهرجان «كان» مع فيلم يوسف شاهين «الآخر»، وكنت مرتدياً بدلة شيك، وعندما عدت إلى القاهرة وجدت نفسى «متشعبط» فى صندوق عربية علشان أروّح بيتنا لأننى كنت مفلساً، وساعتها تنازلت عن فكرة الغرور وقل إحساسى المتضخم بذاتى لدرجة أننى شككت فى موهبتى فى فترة ما.
■ ماذا تعلمت من هذه الظروف القاسية؟
- أصبحت مديناً لكل الذين رفضونى قبل ذلك لأنهم دعموا عندى فكرة التحدى.
■ ما السبب وراء تأخر نجاحك كل هذه السنوات؟
- عشوائية الظروف وغياب الرموز فى مصر.. مثلاً أحمد زكى، فتح السكة لممثلين كتير زيه يبقوا نجوم، لكنه بقى نجم لأنه وجد صلاح جاهين يحتضنه، لقد بذلت أقصى ما أستطيع إلى أن أكرمنى المولى واختار لى ظروفاً أفضل.
■ هل للظروف القاسية التى مررت بها علاقة باختيارك لأدوارك؟
- معيارى الأساسى فى اختيار الشخصية أن أصدقها وأحس بها أولا، أياً كانت مهنتها، لكن ما يستهوينى خلال هذه الفترة، وأنا لسه جاى سخن من حجر البنى آدمين، هو أوجاعهم والحاجات اللى تخصهم، خاصة أن السينما المصرية بدأت تفقد هويتها، فأنا أشاهد بعض الأفلام المصرية ولا أعرف إن كانت هندية أم مصرية أم مالله يعطيك العافيهيكية! والطاقة والحماس كانا وراء اختيار أدوارى فى الأفلام الماضية، إنما يجب أن أقدم أدواراً متنوعة للناس بعقلى الواعى، خاصة أن الفن يجب أن يكون مسلياً فى المقام الأول.
■ هل أنت مقتنع بأن للفن رسالة؟
- فى البداية كنت أسخر من هذه الفكرة، وكنت مع مقولة إن «الفن شىء مسلى ويجب أن يكون مسلياً، ولو فيه محتوى ورسالة يبقى جميل»، لكن قناعتى تغيرت من خلال حاجة بسيطة جداً هى احتكاكى بالناس. لقد اكتشفت أن السينما تستطيع أن توحد الناس على شىء، والإعلام بشكل عام له تأثير كبير على الشعب، إذ من خلاله تكره مجرماً أو تحبه. ومن هنا أدركت أن الفنان لابد أن تكون له رسالة خاصة فى مجتمعنا، فعندما يتعلق شخص ببطل يقلده،
أى أن الإعلام له سلطة قوية على المواطنين، لأنهم لا يملكون العقل الناقد ونحن نحتاج إلى أن نتحدث بنبرة وطنية دون هجوم بل بحب، وهذا موجود فى «دكان شحاتة»، فالبطل فيه لم يكن نبيلاً بقدر ما يتمتع بالتسامح ويريد أن يعيش لأنه رافض للإحساس بالوحدة، والفيلم خلق حالة من التوحد بين الناس هى بكاء كل من يشاهده.
■ شخصية «شحاتة» مسالمة إلى حد يتنافى مع الواقع، حيث يسود الغل والعنف والفوضى، هل أثر هذا التناقض على الشخصية بالسلب أم أنه مقصود؟
- بالعالله يعطيك العافيه خدم الشخصية كثيراً، فعندما يسود العنف لابد أن تظهر الشخصية المتسامحة، خاصة أن التغيرات التى طرأت على «شحاتة» كانت نتيجة ظروف اقتصادية والتغير ليس حقيقياً بدليل أن أبطال الجرائم فى المجتمع الآن ليسوا مجرمين بطبعهم بدليل ندمهم على ارتكابها، وطوال الوقت كان «شحاتة» يؤكد قدرته على الانتقام لكن مبادئه تجعله متسامحاً ومتفائلاً ومحباً للحياة، فهو يتمتع بقدرة رهيبة على حذف أى شىء يوجعه، وغياب بعض لحظات العنف أدى إلى وجود علامات استفهام عند الجمهور الذى تفاعل مع الفيلم لدرجة البكاء والصراخ فى دور العرض، وهذا يثبت نجاح «شحاتة» فى التفاهم مع الجمهور بقدر التفاعل معه، كما يثبت نجاح الدور رغم تحفظاتى عليه.