حكى لى الرئيس أحمد بن بلاّ عن زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، قال: فى أثناء زيارة لى إلى الأمم المتحدة فى نيويورك وجّه لى الرئيس جون كينيدى الدعوة لزيارة البيت الأبيض.. استقبلنى الرئيس كينيدى استقبال الرؤساء مع أننى كنت رئيس حكومة مؤقتة. استقبلنى استقبالاً رسمياً مهيباً.. وضع لى البساط الأحمر واستعرض معى حرس الشرف،
كان كينيدى مصرا على استقلال الجزائر.. كان رائعاً فى داخله وعاملنى معاملة طيبة.. لكننى قلت له: سوف أذهب من هنا إلى كوبا.. فذهل كينيدى - الذى كان على وشك دخول حرب عالمية ثالثة بسبب كوبا - وقال: تذهب إلى كوبا من هنا؟!.. لو فعلتها لضربتك الدفاعات الجوية الأمريكية، فهى تضرب كل طائرة تذهب إلى كوبا.
قلت له: نحن ثوار.. لا نخاف، وأنا عندى قرار من «جبهة التحرير» بالسفر من هنا إلى كوبا لزيارة كاسترو.. وهذا قرار مقدس لابد من تنفيذه. قال كينيدى: اذهب إلى المالله يعطيك العافيهيك ومن هناك إلى كوبا.. قلت له: الأمم المتحدة ليست أرضاً أمريكية سأذهب من هنا. وينتهى بن بلاّ بالقول: لقد سبّبتُ بموقفى هذا إحراجاً بالغاً للرئيس كينيدى.. ولكنه فى النهاية قال لى: اذهب.. وذهبت».
لقد تأملت طويلاً هذه الواقعة التى عرضتُها فى كتابى «خريف الثورة»، وحين التقيت الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى حفل إفطار «المصرى اليوم» فى شهر رمضان الماضى، وكان من حظى أن جاورت الأستاذ على مائدة الطعام، لنبدأ حديثاً ثنائياً امتد ساعة كاملة.
كان من بين ما قلته للأستاذ: هل تعترف معى أن رؤية الفكر السياسى المصرى للعالم كانت أبسط مما ينبغى، وأن رجلاً بوزن جون كينيدى لم يتم إدراك حجم التحوّلات التى أحدثها فى السياسة الأمريكية.. ولم يحدث أى تقدير دقيق لحجم المكانة الأخلاقية للرجل ولا لوزن المبادئ التى يحملها. ثم رويت له ما سمعته من الرئيس بن بلاّ. كنتُ أظن أن الأستاذ سيُبدى أىّ قدرٍ من المراجعة أو شيئاً من الاعتراف بأن قصوراً فى الإدراك قد حدث، أو أن الرئيس كينيدى لم يكن بالضبط كما رويت ورأيت.
ولكن الأستاذ راح يصف لى لقاءه بالرئيس جون كينيدى، وعن «قصة السيجار» بينهما.. عمّا قاله الرئيس عن سيجاره المفضل وعمّا قاله الأستاذ عن أنواع السيجار.
ثم مضى الأستاذ بعيداً إلى حيث أراد.. قبل أن ينحنى الحوار إلى منعطف آخر.
وقد ذهبت باحثاً عن رؤية أوسع للأستاذ ربما لم يُسعفه حفل إفطار ومشاهد أطباق وأكواب، وكان ذهابى إلى كتاب الأستاذ «الإمبراطورية الأمريكية»، ولقد قرأته آنذاك مرتين حتى أجد الجرأة لأقول.. إنه واحد من أضعف كتب الأستاذ، وواحد من أضعف الكتب فى حقل الدراسات الأمريكية.
لقد تذكرت ذلك كله.. ما سمعته من الرئيس بن بلّا وما سمعته من الأستاذ حين بدأت صحيفة «الشروق» فى الإعلان عن حديث الأستاذ حول خطاب الرئيس الأمريكى باراك أوباما.
ولأننى واحد ممن يحملون للأستاذ من المشاعر ما يتجاوز الحب ومن التقدير ما يتجاوز الاحترام.. ولأننى عانيت فى وقفتى الأولى من ردود غلبت فيها العاطفة على الحقيقة وغطت فيها حواجز الحركة على معالم الطريق.. فقد أخذنى التردد.. بعد أن دخل على خط المواجهة مَنْ أساء إلى قيمة المعركة وإلى أوزان المتحاربين.
■ إن حديث الأستاذ يؤسس لتهافت جديد فى العقل السياسى العربى.. حيث نواجه العالم بلا بصر أو بصيرة.
إنه حديث يُربك الفكر السياسى ويغلق باب الأمل ويدفع إلى راحة اليأس.. وهنا نقاط محددة فى سطور محدودة.
(١)
قال الأستاذ: «إن مؤسسة قوية قد اختارت أوباما للتعبير عنها.. وأنا أعتقد أنه يؤدى دوره بامتياز.. هو قادر على أن يؤدى المهمة التى جىء به من أجلها» ثم يمضى الأستاذ يقول: «أنت أمام رئيس أمريكى أسود.. هذا فى حد ذاته دليل على عمق الأزمة.. هذا الرجل من خارج السياق.. هو رئيس ينتمى لأقلية».
وهذا رأى غريب.. فالأستاذ لا يرى فى الرئيس أوباما إلا أحد ممثلى هوليوود.. هو مجرد واجهة لآخرين.. هو فقط يؤدى الدور المطلوب.
وفكرة التمثيل عميقة فى ذهن الأستاذ فهى الفكرة الحاكمة فى رؤيته للرئيس السادات ولساسة عديدين.. وعلى الرغم من أن أحداً فى العالم لم ينظر بازدراء إلى ممثل فعلى جاء من هوليوود إلى البيت الأبيض.. ليكون الرئيس الفنان رونالد ريجان هو من يؤسس لنهاية الاتحاد السوفيتى.. ومن ثم ليؤسس للإمبراطورية الأمريكية..
إلا أن الأستاذ الذى لم يحدث أن تعالى على الممثل المغمور القادم من هوليوود.. جاء حديثه متعالياً للغاية على باراك أوباما رجل السياسة القادم من الإسلام والمسيحية ومن أفريقيا وآسيا وأمريكا.. ومن جامعة هارفارد ومجلس الشيوخ.
وقد استخدم الأستاذ نفس المفردات التى يستخدمها اليمين العنصرى فى الغرب من «رجل أسود».. «يمثل أقلية».. «خارج السياق».
(٢)
يقول الأستاذ: «كنا فى لحظة وجدت أمريكا نفسها بلا عدو.. فجرى اعتبار الإرهاب مقترناً بالإسلام، ثم كان أن وصلت هذه المعركة فى التعبير عن مطالب الإمبراطورية إلى طريق مسدود».. وقول الأستاذ غير دقيق.. ذلك أنه كان يمكن للإدارة الأمريكية أن تواصل ثنائية «الإسلام والإرهاب».. فلا تزال القاعدة ناشطة، بل هى الآن أكثر نفوذاً داخل باالله يعطيك العافيهتان أكثر من أى وقت مضى، ثم إن الأزمة المالية العاصفة التى أربكت الإمبراطورية الأمريكية كانت تحتاج إلى تشتيت الذهن الأمريكى باتجاه مزيد من الأيديولوجيا ومزيد من الحروب..
وعلى ذلك فإن أسباب الفكر الاستعمارى الأمريكى فى اعتبار الإسلام عدواً قد زادت عما كانت عليه منذ سنوات. ومن المهم هنا القول بأن مدة اتخاذ الإسلام عدواً لا تزال قصيرة للغاية فى عمر الصراعات.. فقد وصل آخر عداء قبل الإسلام وهو العداء للشيوعية إلى سبعين عاماً. ومن ثم فإن هناك تفسيرات أخرى لهذا التحول.. لا يكفى بشأنه القول بأن «المعركة فى التعبير وصلت إلى طريق مسدود».
(٣)
يقول الأستاذ: «فى أمريكا إذا أريد تغيير السياسات فمكان هذا هو الكونجرس وليس جامعة القاهرة».. وعلى الرغم من أن السياق اللغوى لعبارة الأستاذ جاء جارحاً لجامعة القاهرة.. كأن أوباما كان يتحدث فى كوخ بائس عند غابة أفريقية، فإن تجاوز ذلك لن يكون كافياً لإنقاذ الأستاذ.. ذلك أن تغيير السياسات -أى سياسات- إنما يتم فى العقول أولاً.. ثم تسير الأبنية السياسية على نحو ما ارتأى العقل السياسى الحاكم، السياسة فكرة ورؤية ثم قرار.. ويعرف دارسو النظام السياسى الأمريكى أن سلطة الرئيس سلطة حاسمة،
وعلى الرغم من النفوذ الكبير للكونجرس والقوة المؤكدة للسلطة التشريعية فإن تاريخ الولايات المتحدة هو فى الواقع تاريخ الرؤساء.. والزمن الأمريكى بكامله هو أزمنة رؤساء الولايات المتحدة.. فهذا عصر ويلسون وذاك زمن روزفلت وهذه أمريكا كينيدى وتلك حقبة ريجان وهذا زمن جورج بوش. لم يكن الكونجرس وراء حروب جورج بوش ولا كان الكونجرس وراء التنظير للعداء للإسلام، ولكنه كان فكر الرئيس بوش الذى رأى فكان ما رأى ورأينا.